للمفكر العربي علي محمد الشرفاء الحمادي
رسالة جديدة من رسائل السلام يبعث بها المفكر العربي الأستاذ على الشرفاء الحمادي إحياءً للخطاب الإلهي المهجور في القرآن الكريم.
فالإنسانية هي جوهر مبادئ رسالة الإسلام في البلاغ القرآني الذي استهدف تلك الإنسانية تكريماً وتوجيهاً ورعاية. وصيانةً وأمنًا ودعمًا وعونًا وقد يغفل الكثير منا عن الشمول الذي أحاط به البلاغ القرآني الإنسانية لفظاً ومعنى . واهتمامًا إذ وردت كلمة الإنسان بالقرآن ٦٣ مرة إلى جانب كلمة بني آدم ٦ مرات وكلمة الناس ٢٤٠ مرة.
أما على مستوى المعنى فقد تجلى الاهتمام القرآني بالإنسانية في محورين :
المحور الأول
حدَّد فيه القرآن (الإنسانية) كإطار جامع يشمل سائر البشر عُربْهم وعجمهم أبيضهم وأَسْودهم وسائر أعراقهم وثقافاتهم، وديانات ممن يجمعهم لفظ الناس وبنو آدم في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» الحجرات-١٣، عندما يخاطبهم كجماعة ذات أصل بشري واحد «آدم وحواء» ومنشأ واحد من الطين.
وهذه الإنسانية قد خصها الله تعالى بأجلّ مهمة على الأرض وهي خلافة الله فيها لإعمارها وإقامة تشريعاته وعباداته ودستور الأخلاق الربانية: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» البقرة- ٣٠.
وقدم الله لها العون الكبير على أداء تلك المهمة الجليلة بتنزيله الكتب السماوية وإرساله الأنبياء إلى جانب إمداد البشرية بالفطرة السليمة والعقول المفكرة والحواس اللازمة لاكتشاف العلوم والمعارف التي تمكن الإنسان من تسخير الكون لخدمته. قال تعالى: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون» النحل- ٧٨.
ولكي يسّهل الله مهمة الإنسانية في إنجاز التكليف بالخلافة والعمارة في الأرض جعل لها قاسماً مشتركاً يسهل عملية تقاربها وتوحدها خلف مهمتها، فكان ذلك القاسم هو الرسول الأعظم الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم المرسل بالبلاغ الإلهي الأخير في القرآن الكريم المصدق لكل رسائل الوحي الإلهي السابقة والمهيمن عليها: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا» الأعراف- ١٥٨.
ولكي تتسارع خطى التقارب والاتحاد الإنساني جعل الله طبيعة رسالة رسول الإنسانية وهدفها الرئيس هو الرحمة للإنسانية: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» الأنبياء- ١٠٧ ، فَنَزع من قلب رسول الإنسانية كل أشكال الغلظة والشدة والعنف وأودع فيه الرأفة والرحمة واللين:«فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» آل عمران- ١٥٩.
المحور الثاني
القيم الإنسانية التي تشكل جوهر الإنسانية وعمادها.
وقد احتشدت آيات الرحمن في القرآن بالقيم الإنسانية التي لا يصح معنى الإنسانية إلا بها، وأ هم تلك القيم :
١. الكرامة الإنسانية وتكريم الإنسان:
هي أهم قيم الإنسانية التي وهبها الله للإنسان فأصبحت حقا أصيلاله لأنه قد ُولد بها عندما كرمه الله قبل مولده فأسجَدَ الملائكة لأبيه آدم: (إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ» «الكهف- ٥» ، و ذ ل ك بعد أن خلقه الله سبحانه بيده ، ونفخ فيه.من ُروحه
ولذلك جاء إعلان كرامة الإنسان وتكريم الإنسانية بالقرآن مدويا حاسما دون َلْبٍس أو قيد أو شرط أو استثناء: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) الإسراء-٧٠.
٢- الحرية:
وهي حرية شاملة في الحياة والحركة وكذلك التفل والفكر والعمل ، وفي المقدمة تأتي حرية التدين والاعتقاد: البقرة / ٢٥٦ ، فلا إجبار (لا إكراه في الدين) على فكر أو اعتقاد أو ملة أو مذهبية: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) يونس- ٩٩، «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» الكهف – ٢٩
٣. المساواة
فكل البشر أخوة أشقاء من أب واحد «آدم» وأم واحدة «حواء»، فلا تفاضل بينهم على أساس من لون أو جنس أو عرق أو لغة، بل وجه التفاضل هو تقوى الله ومخافته: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» الحجرات -١٣.
وكذلك التفاضل يكون بينهم فى الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» البقرة – ٦٢
٤- التعاون
لأن التعاون هو أحد ركائز المجتمعات الناجحة وأداة تحقيق التوازن والتنمية المستدامة وطموح الرفاهية وتعزيز العلاقلات الاجتماعية والتكافل الاقتصادي الذي لا يتم إلا بالتعاون الجماعي وليس بجهد الفرد الواحد.
لذلك جاء الأمر القرآني بهذه القيمة على سبيل الإلزام والوجوب وليس الاختيار والجواز، قال تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ» المائدة-٢
٥.العدل والإحسان
وقد حرص القرآن على تكريس العمل بالإحسان ليس بوصف الإحسان فضلا ومنةً وتفضلا بل بوصفه واجبا يفرضه العدل والإنصاف؛ لذلك جاء الأمر القرآني بالإحسان مقرونا بالأمر بتحقيق العدل وتاليًا له: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» النحل- ٩٠.
ويأتي الأمر بالإحسان أولا للوالدين أصحاب الحق الأول في الإحسان العام والخاص ثم لعموم الناس دون تفرقة فالإحسان حق واجب للجميع على كل الأحوال للقادر على العمل ولغير القادر على العمل يجب عليه الإحسان في بالقول : «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا» البقرة-٨٣ .
٦- التكافل:
وهو أكثر القيم الإنسانية تضامنا مع الإنسان فعلا وشعورا وتعاطفا.
وقد وجّه البلاغ القرآني رسول الإنسانية إلى مراعاة تعميم التكافل وتوجيهه ليشمل كافة درجات الإنسانية بدءًا من الوالدين أولى الناس مرورًا بذات القربى وانتهاء إلى الأغراب من الجيران في المسكن أو الوطن والمحتاجين في أرجاءالكون والمعمورة: «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ» النساء- ٣٧.
وهذا التضامن الإنساني عملي بالإنفاق من المال العام والخاص للإنسان، وقد أوجب القرآن على رسول الإنسانية أن يضع هذا التضامن موضع التنفيذ بنفسه: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا» التوبة- ١٠٣.
بأن يأخذ زكاة أموال القادرين وصدقاتهم لينفقها على غير القادرين لتكوين المجتمعات المتكافلة ماديا وشعوريا.
لكن هل استطاعت الإنسانية الانتفاع من هذه النزعة الإنسانية في تعاليم رسالة رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم؟ ذلك ما يجيب عليه الحمادي في رسالة قادمة من رسائل السلام.