نظرية الدولة وفق التشريع الإلهي في القرآن المجيد تعتمد على منهج؛ ( إذا صلح الفرد صلح المجتمع ) مما يعني أن الله سبحانه اقتضت حكمته البدء بتربية النشء على تعليمهم تطبيق المنهاج الإلهي الذي يؤسس لديهم قيم الأخلاق القرآنية وصفات المؤمنين التي ذكرها القرآن في آيات الذكر الحكيم، ليصحح لدى الأفراد سلوكياتهم لتتوافق مع الاخلاق السامية كما وصف الله رسوله عليه السلام: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم (٤)، كما وصف الله رسوله أيضًا بالرحمة في قوله مخاطباً رسوله {وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ} (الأنبياء:١٠٧).
وإذا نجح القادة في وضع المنهاج الإلهي للأخلاق الإنسانية في المعاملات والعلاقات الاجتماعية، ومراعاة كل فرد بتطبيق مبادئ المنهاج الإلهي في سلوكياته وممارساته في علاقاته الاجتماعية في كل موقع أثناء الدراسة وأثناء العمل وخلال تنفيذ مسؤولياته الوظيفية وعلاقاته الأسرية، متمسكاً في معاملاته في حياته في مختلف المواقع والوظائف بالرحمة والعدل والإحسان والمساواة واحترام حقوق الإنسان والتسامح والعفو والمغفرة لكل غير مقصود ومعاملة الناس جميعاً بالحسنى والتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان، والابتعاد عن الظلم بكل أشكاله، وحمل الأمانة بكل إخلاص وصدق، والابتعاد عن الظن السيئ، وإعطاء الحقوق لأصحاب الحق.
تلك بعض الأخلاق القرآنية وصفات المؤمنين التي تجمع الناس على قلب واحد وتعتصم بكتاب الله المبين، ولو نجحت المجتمعات في إعادة صياغة شخصية المسلم وسلوكه وفق المنهاج الإلهي لأصبحت أعظم أمة متقدمة تقود الإنسانية كلها لتعمير المدينة الفاضلة، ومن أولئك الذين نشأوا وتدربوا على المنهاج الإلهي تتكون المجتمعات والشعوب والدول، وعندما يتمتع القادة بتلك الصفات، تصبح الشعوب الإسلامية في مصاف الشعوب المتقدمة والنامية، تتحقق فيها الرحمة والعدل والاستقرار، ويعيش الناس معًا إخوةً متحابين ومتعاونين وكلهم ينتمون إلى مجتمع متماسك يشد بعضه بعضًا، وتتخذ الدول الإسلامية دستورها معتمدًا على القيم القرآنية المذكور بعضها أعلاه، فلا فِرق متناحرة، ولا أحزاب متصارعة.
فالكل يعمل وِفق منظومة الأخلاق القرآنية، حيث تأتي الأخلاق في مقدمة العبادات، والله جعل العبادات وسيلة الوصول إلى الأخلاق الحميدة، فيكون المجتمع في معاملات أفراده يتبعون دستورًا واحدًا أساسه القرآن الكريم.
لذلك فشلت محاولات تأسيس أنظمة الحكم منذ وفاة الرسول عليه السلام، لأن من خلفه لم يدركوا حكمة العبادات ويؤمنوا بالتشريعات الإلهية؛ سواء تشريع العبادات وحكمتها، وتشريع المحرمات لتحصين المسلم من الوقوع في الذنوب والمعاصي، وتطبيق تشريع النواهي، واتباع المنهاج الإلهي في سلوكياتهم، ففشلوا في إنشاء مجتمعات تربت أفرادها على التشريعات الإلهية حتى يومنا هذا.
وقد استطاع أولياء الشيطان أن يخدعوا المسلمين بروايات التزوير على الرسول، مما جعلهم يهجرون الدستور الإلهي، وتاهوا بين الروايات التي فرقتهم شيعًا وأحزابًا، يقتل بعضهم بعضًا للمصالح الدنيوية والصراع على السلطة، نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وضلوا الطريق المستقيم فتكالبت عليهم الأمم فاحتلت أوطانهم، ونهبت ثرواتهم، واستباحت سيادتهم، وشردوا الكثير من السكان يهيمون في الأرض يبحثون عن ملجأ آمن، كل ذلك لأنهم انصرفوا عن خارطة طريق الهدى التي رسمها الله لهم لتحقق لهم الأمن والاستقرار والعزة والمتعة والسلام.
للأسف فشل المسلمون الأوائل في تكوين نظام حكم يعتمد على قيم الرحمة والعدالة والحرية واحترام حقوق الإنسان، كما أمرهم الله بعد أن دخلوا في دين الإسلام باتباع كتابه كما خاطبهم بقوله: {ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوْلِيَآءَ ۗ}، خالفوا أمر الله واتبعوا أولياء الشيطآن، وأسقطوا شعلة النور التي تضيئ لهم طريق الحياة الطيبة الآمنة والمستقرة والعادلة، ومازالوا غارقين في ظلام دامس، فضاعوا وغرقوا في مختلف المشاكل والأزمات نتيجة لتخليهم عن كتاب ربهم الذي لو اتبعوا شرعة الله ومنهاجه لخرجوا من الظلمات إلى النور.
إن الفرد اللبنة الأولى لتكوين المجتمع، واذا تمت تربية الأفراد وفق المنهاج الإلهي الأخلاقي والقيم النبيلة، يستطيع المجتمع أن يؤسس بهم مجتمع الرحمة والعدالة، ويخرج منهم قادة متفانون في خدمة أوطانهم دون استعلاء ولا مِنَّة أو تكبُّر، ويشترك الجميع في رسم خارطة المستقبل لهم ولأجياله بواسطة التشاور والمصارحة التي تستهدف بناء وطن يحقق التكافل بين كافة المواطنين، مما يحقق مصلحة الجميع، ويكون المشرفون على خطة المستقبل في التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية أكثر حرصًا وأمانةً وانفتاحًا مع القادة في إبداء الرأي الأمين بكل الوضوح دون خوف أو إرهاب، مما يتيح أن يتشاور الجميع بكل المصداقية في تحقيق آمال المجتمع في الحرية والعدالة والمساواة، ويشعر جميع المعنيين بإدارة سياسة التنمية بالأمانة أمام الله قبل أن تكون أمام القائد، وأن يكون الحوار بينهم فيما يتعلق بمستقبل المجتمع دون نفاق أو خوف، فكلهم أعضاء في فريق متساوي المسؤولية لتحقيق أمنيات المجتمع.
ومثال، إذا اختار المزارع البذرة الممتازة لمزرعته ومراعاتها بمكافحة الحشرات وتأمين الأسمدة الجيدة، ينتج من ذلك أن تكون الزراعات على أعلى مستوى من الجودة، وتكون محصلة الحصاد من حيث النوع والكم والتميز قد تحقق بالفوز في العوائد المالية، ويكون نجاح الموسم الزراعي قد حقق أهدافه.
ذلك مثل على تربية الفرد تربية صالحة لتكون محصلة الجهد في الرعاية والعناية بالفرد في المجتمع تعطي
نتائج إيجابية تحقق خطط التنمية وترتقي بمستوى المعيشة من حيث الطمأنينة والسكينة والاستقرار والتقدم والازدهار، ويكون مستقبل الأجيال في أيدي أمينة تعمل بكل الأمانة والإخلاص، تحقق ضمان استمرارية التطور لمصلحة المجتمع، وتؤمِّن حقوق الأجيال القادمة دون أن ترهقها بالديون المستحقة، والاعتماد على النفس، ووضع خطط بعدم الاحتياج للقروض، لترفع عن كاهل المجتمع أن يكون مدينًا لقوى الشر التي تستغل تلك الديون لخلخلة الاستقرار لدى المجتمعات الإنسانية لابتزازاها، وتضطر لرهن ثرواتها أو لمصادرتها بعد ذلك، ولن يتم تحصين المجتمعات من أخطار الديون إلا إذا كانت القرارات الاقتصادية والمالية مبنية على دراسات عميقة منعت الدولة من الاضطرار للاقتراض، وكل ذلك أساسه الثقة المتبادلة والشعور بقدسية المسؤولية تجاه المجتمعات التي أوكلت بعض من مواطنيها قيادات ركب التقدم، ووضع السياسات الاقتصادية وِفق حاجة المجتمع، وأن لا يسمح بالاستبداد في الرأي لأي من القيادات السياسية.
والله يدعو الجميع للتعاون على البر والتقوى، وإذا لم يتحقق التعاون الذي أمر الله به المسلم تحدث الكوارث والأزمات ويختل النظام في المجتمع، وقد تنهار الدولة وتكون عُرضة للفساد والبغي والطغيان، وتختفي من الخارطة كما اختفت في الماضي دولًا كثيرة ضاعت معالمها، وقيمت حدودها وأصبحت أثرًا بعد حين.